مراسي

بين صور العمانية وصور اللبنانية بانتظار مجيئ “أليسا” المبحرة إلى قرطاج

حمود بن سالم السيابي

————————————————

إنه الغروب في صور والسيارات تتهادى بين العيجة والسوق القديم فتربك لون البحر ولون الأفق ولون رفيف النوارس.

ليت المجنونة “أليسا” وهي تفرُّ من جور أخيها “بجماليون” إلى قرطاج عبر المركب “gauloï” قد أبحرت بالغنجة الصورية وتيممت شطر منابت أجدادها فالقَبْعَة الصورية تليق بشموخها الفينيقي والدشداشة الصورية تليق بالذين يغالبون غضب الماء ، لكنها آثرت الإبحار من صور حاضرة الجنوب اللبناني إلى شطآن الشمال الأفريقي في قرطاج ومعها العذراوات وكنوز “أشرباس”.

أنا هنا للمرة المائة كزائر لصور وللمرة المليون كعابر لها في الحلم ، ولكنها الأولى التي أصادف فيها الغروب يهرب من البحر ، وأصادف فيها مصابيح السيارات تغزل قطيفة ضوء ليمشي عليها النواخذة الذين اشتاقوا لليابسة ولزعفران مخا ولظلال المآذن بعد أن سكنتهم طويلا رائحة الخشب الذي شرب الماء.

يأخذنا اللون الرمادي إلى خور البطح وقد أشعلت العيجة سرجها وانشغلتْ بالتراسل مع الأشرعة البعيدة.

هنا وقف الخالد الذكر قابوس بن سعيد ليتقبل دفة غنجة صورية برسم تاريخنا الأزرق.

وهنا أطلق جواهري صور ناصر البلال قافيته:

تاهَتْ عَلَى الـــــــشِّعْرِ فُرْسَانـــــــاً وَمَيْدَانَا

لَمَّا اعْتَلَى عَرْشَهَا بِالْيُمْنِ مَوْلاَنَا

هذا هو خور البطح إذن وقد علَّقَتْ العفية جسرها تعريشة أهداب بين بلاد صور والعيجة فنمشيه في ديمة من أذانات المغرب وغِلالات المغيب الرمادي فتتضاءل كل الجسور التي تشبهه.

ربما لانحيازنا للمكان فنراه أكبر من جسر “بروكلين” الذي يربط نيويورك ببروكلين.

وربما للزمن الخارج عن الزمن لحظة عبرناه فارتقى كأجمل من “البوسفور” الرابط آسيا بأوروبا.

هاهي منارة العيجة التي تتكرر في كراسات رسم الطلاب في مدارس جنوب الشرقية وعلى صفحات “الأنستجرام” للصوريين ومعها جسر البطح المتلفع خلطة من الأضواء الثلاثة للون العلم.

نقترب لأول مرة من منارة العيجة لنخوض في رسائلها السرية المتبادلة مع الأشرعة فيصعب علينا فك الشيفرات.

يأخذنا الدرب نحو شرفات مطعم “صحارى” وقد تسكعتْ أنواره في الرمل الرطب ، والتمعتْ أحرف لافتاته في عيون البحارة الذين افترشوا ألواح قواربهم وهم يقتاتون الحكايات المالحة.

اقتربتُ منهم لأسائلهم عن الشايب صالح الراقد في رواية “بروة” فتحسسوا أثر الحبال التي كرَّتْ في مسبحة الأيام وتركت كل هذه الفلوق على أكفهم فلعل الشايب صالح أحد أقاربهم.

وعرَّجْتُ بفضول الأسئلة على مرايم بطلة “بروة” ذات الشيلة السماوية فأخذوا نفَساً عميقا وكأنهم يشمون الجدائل الممسَّدة بالكيذاء.

تعجلتُ المشي بهديٍ من خطى هائمة قبل أن يسابقني الموج النزق فيطمسها.

لقد كانت مرايم هنا تتشاقى والموج والشناجيب وسويعات الأصيل الباردة.

غادرنا الشاطئ والشِّيَّاب مكانهم فوق القوارب ومعهم حكاياتهم المالحة يجدِّفون لشومة جديدة.

لقد اتسع العمران بصور كثيرا فاحتاجتْ من ابني مازن للنفيجيتر ليسلك أقرب الطرق إلى عناويننا.

مررنا بفتح الخير التي ما زالت مكانها ضجرة بعد أن تقاعدت وهي التي أتعبتْ البحار ولم تتعب فخذلها الملَّاك.

كانت صامتة كخشبها ، وباردة برود الأواصر التي تقطعت مع منارة العيجة ، إذ لم تعد عبون النواخذة تتبادل الرسائل المشفرة مع قناديل العيجة ولا تنتظر الإذن بالإبحار..

لقد اختارت الرسو على الأرض السبخة كتذكار ملهم للأجيال يستعيدون -صور – سيدة البحار ولؤلؤة الموانئ وعاصمة التراث البحري.

يا حزن السفن حين تموت على اليابسة ..

ويا حزن الخيول حين تموت في الأسطبل…

ويا حزن السيوف حين تصدأ في الأغماد دون أن يتاح لها أن تلمع كبارق ثغر عبلة عنترة.

نترك فتح الخير تكفكف دموعها

فندخل السوق القديم إلَّا أنَّ المصارَّ ذات الطرَّة المجنحة جهة اليسار بل جهة القلب لم تعد تيجان كل الرؤوس ، ولا القَبْعة هي الموضة زمن الكورونا.

نتوقف عند مقهى “الهيل والزعفران” لنستعيد رائحة خبز رخال وشاي كرك كان عبق جلسة جمعتني بالشيخين الأثيل النعماني وأحمد الرحبي قبل عام لتتكرر هذا المساء مع مازن وطلال إلا أن كورونا أطفأ موقد خبز الرخال “المطشش” بالبيض ، وشاشة التلفزيون التي تجتذب عشاق كرة القدم لم تعد مكانها ، حتى النواخذة فارقوا تكايا المقهى فلم يعد لديهم ما يراجعونه سواء قوائم الركاب أو قوائم السلع أو خيارات الصوغات ، فغابت النكهات عن أباريق المقهى وانتحرتْ الدِّلال ، فبدا المكان مملَّاً وثقيلا ككل المقاهي التي غيبها كورونا ، ولكنها ستعود يوما ومعها رائحة القهوة والشاي والقروص وخبز الرخال وصخب الجلسات.

عبرنا الأزقة الضيقة لنسترد صور الحقيقية بمحاليق أبوابها المتوشحة للمسات الترحال والوصول فإذا بها كبقية الحارات في الولايات ترطن باللغات الآسيوية ، فأهلها زرعوا التلال بيوتا وتركوها للغرباء.

إنهم هناك يفتحون نوافذهم ليلمسوا بأياديهم الأهلة والقبب والمآذن ، ويتبادلون ب”السناب” صُوَرَ أدخنة “الباربكيو” في حدائق الفيلات ، ويتفننون بتزيين أنواع وألوان الحلويات التي يطفح بها “السناب” و”الإنستجرام” ، ويتبارون بكرة السلة في الأحواش ، ويتصايحون مع المراحل التي قطعوها في “الببجي” وهم يلعبون مع مجاهيل حول العالم.

لقد خلتْ الحارات من الطيبين فالنواخذة أودعوا سحاحير “الواتربروف” سنن البحر ، والشعراء الذين غادروا من متردّم ما عادت البيوت ذات الأحواش التي يتوسطها شجر الشريش بيوتهم فرحل بعضهم عن دنيانا كإبن المصفية الشاعر ولد وزير ، وعاند بعضهم القريض كمحمد بهوان ، وشاخ بعضهم فلحقوا بأبنائهم ومعهم القصائد النازفة.

نواصل المشي في الحواري القديمة وقد تقطعت فيها صبابات النغم وأشجان الطَّار وكأن البيوت التي ترك البحر وشمه على جدرانها لم تعد أمكنة لرمسات الفنانين ، ولا بأحواشها التي يغسلها القمر متسعاً للأراجيح فتصلبت أوتار الأعواد لاعتلالات الأمزجة ولاختلالات “الأوزون”في الحياة.

يأخذنا “النفيجيتر” باتجاه “السيتي سنتر” حيث العلامة الفرنسية “كارفور” تمد أذرعها الطويلة في العالم لتصل صور ومعها “اللافاش كري” و”الديور” و”لاكوست “.

ندخل مطعم “راز مزان” على واجهة الكارفور فيشعشع عبق “الكاري” الهندي و”الداهي بوري” واحتراق “التندوري نان”.

هنا صور الحديثة حيث تتجاور المولات والفنادق ووكالات السيارات والعيادات.

أسرح من زجاج المطعم في صور وأنا أقلب قوائم “المنيو” الهندي وفي الذهن عشرات الزيارات التي غيرت معالم المكان لدرجة الشعور بأنني وصلتُ إلى هنا بالطائرة وأن علي أن أقرأ نشرة الطقس.

عرض النادل في “راز مزان” قائمته من القهوة والشاي بعد وجبة ثقيلة وحراقة من البرياني ففضلنا أن نحتسيها في “مرسال” المقهى الذي يطرِّز حيطانه برسومات لوجوه وأغنيات كوكب الشرق وفيروز.

لم تكن أم كلثوم هناك ولا فيروز بل الساقي القادم من بلاد النيل لنقتسم معه مرارة الغربة بالنكت التي تضحكنا فتبكينا.

ندخل المول الذي تلألأت محلاته بالماركات فنلوذ بممر لنصلي فيه العشاءين فقد أوصد كورونا المصلى.

نعاود الهيمان في ليل صور فنعاتب مجددا “أليسا” التي لم تبحر صوب العفية ، ولا ألْقَتْ “الباورة” في خور جرامة.

أستعيد ومازن زيارتنا لصور اللبنانية في مايو عام ٢٠١٣ يوم انطلقنا صبيحة يوم مشمس من فندق “مونرو” في ساحة رياض الصلح باتجاه آخر نقطة مع فلسطين بعد أن عبرنا كل الجنوب حتى بوابة فاطمة مرورا ب”مليتا” في إقليم التفاح التي علقت على واجهتها لافتة “حكاية الأرض للسماء”.

يومها تتابعت مدن وقرى جبل عامل المغزول بالمآتم والأضرحة والرايات فتزاحمتْ أسئلتنا للأميرة “أليسا” وعمها “أشراباس” ولأخيها “بجماليون” لماذا الإبحار غربا ؟.

ونستدعي مع تساؤلاتنا “الناووس” الفينيقي الحجري للملك “حيرام الأول” الذي انتهت لبنان من ترميمه العام الماضي لإعادة الاعتبار له ولصور اللبنانية فنسقط الناووس الفينيقي على الضريح الذي يحرس البحر في قلهات والمعروف ب”بيبي مريم” والذي ترممه الآن وزارة التراث والسياحة فتتلاقى الميثولوجيا في صور وصور.

نعاود تذكر زيارتنا لصور اللبنانية فتحضر يابستان تجتذبان السفن والنواخذة والفينيقيين والنوارس والغيم حيث حلَّ بصور لبنان الملك أحيرام وغرس مالك بن فهم الأزدي بيرقه في قلهات ثغر صور.

ونقارن بين النخيل في البلدتين لنرى أنها هنا ضخمة الجذع طويلة السعفات على العكس من تلك “الشعوالة” في صور اللبنانية.

والكلام نفسه عن زرقة البحر وقد ازدادتْ هنا على العكس من البحر هناك وقد شتَّتتْ النتوءات الصخرية على الشاطئ والتربة المدرية اللون الداكن.

إلا أن صور وصور تلتقيان في أسئلة الغيابات ، فتفتقد صور العمانية نواخذتها الذين ابتلعهم البحر مع سفنهم ذات غضب ، بعد أن نقشوا أسماءهم على موانئ العالم في أفريقيا وأقاصي آسيا بينما تتشح صور اللبنانية السواد حزنا على رحيل موسى الصدر الذي استدعته أواخر خمسينيات القرن الماضي من قم ليخلف آية الله العظمى عبد الحسين شرف الدين فسافر إلى طرابلس الغرب للقاء الزعيم القذافي فتسرَّب بين ليبيا وإيطاليا ، وما زال نبيه بري يحشد اللبنانييبن كل عام في مهرجان بعنوان “العودة للصدر ورفيقيه”.

وتزهو صور العمانية برايتي ناديي صور والعروبة بينما تهيمن على أفق صور اللبنانية الرايات الخضراء لحركة أمل.

ونترك صور السابحة في لجج الضوء ورائحة مداخن مصنع الغاز وغيرها من المصانع التي تنبض بالمستقبل ومعنا حورية الماء للشاعر العماني الجواهري الصوري ناصر البلال وترنيمته مرفأ النور ونحن نلوِّح لمرفأ النور:

ينساب عشقك عطراً في شراييني

يا مرفأ النور يا مهد الميامين

يا غرة في جبين الشرق ناصعة

حيتك قافيتي نشوى فضميني

يا مرتع الغيد والخلجان وادعة

يا معقل الصيد من شم العرانين

يا رقصة الموج والأقدار تبعثها

راحت تجوب المدى من بدء تكوين

يا وثبة الطود في ترسيخ عزته

وثب النيازك رجماً للشياطين

ويا أساطيل فلك ساقها قدر

تثري الحضارات في شتى الميادين

ويا قلاعاً سرت بالنور تنشره

عبر المحيطات من مصر إلى الصين

من كل أزهر غير المجد ما طلبوا

لا يرتضون عن العلياء بالدون

مضوا على بركات الله يعصمهم

هدى ويجزون أجراً غير ممنون

سل عنهم البحر قد صلى جماعتهم

سل حاضر البحر عن عز وتمكين

يبنون في كل ربع طود محمدة

ووطنوا المجد فيها خير توطين

هذي المرافئ حب الفلك يسكنها

كانت تسابق في سوق القرابين

ترسو بها الفلك كالأعلام شامخة

من كل مشحونة أو غير مشحون

————————————————

مسقط في التاسع من نوفمبر ٢٠٢٠م

*الصور من أرشيفي ومواقع وصفحات التويتر للمبدعين العمانيين وجوجل.

مقالات مرتبطة

1 من 14