مراسي

الهجرة إلى الوطن بقلم د. خالد بن حمد الغيلاني

د. خالد بن حمد الغيلاني

[email protected]

@khaledAlgailani

لست بصدد الحديث هنا عن الأوطان وأهميتها ومحبتها؛ لأنه لا يقبل العقل ولا المنطق ولا الفطرة السليمة أن يكون هناك شخص سوي عاقل مُتزن فاهم لا يحب وطنه، فمحبة الأوطان أمر فطري مرتبط بالإنسان، ومهما حاول البعض إظهار غير ذلك أو الحديث عن عدم محبة الأوطان فهذا أمر غير واقعي، ولا يُمكن لصاحب لب وبصيرة أن يجد شخصًا لا يحب وطنه.

ولعل سائلاً يسأل؛ لماذا إذن يظهر من البعض سلوك قد يدل على عدم محبة الوطن؟ وللإجابة على هذا السؤال؛ هناك أمران هامان؛ الأول مفهوم المحبة لدى كل منِّا ووسائل ترجمة ذلك إلى واقع ملموس، فلكل فرد طريقته في التعبير عن المحبة لمحبوبه فهناك الكتوم الذي لا تظهر عليه علامات المحبة إلا وقت الحاجة، وهناك الصريح الذي يظهر المحبة في كل حركة وسكون، وهناك المحب المتهور، نعم المتهور الذي يحب بجنون دون نظر لعواقب المحبة المفرطة الزائدة والتي تكون العواطف فيها مسيطرة وجارفة.

أما الأمر الثاني؛ فهو أنَّ الوطن بأرضه وسمائه وهوائه وكل مكوناته شيء، وسلوك وتصرفات البعض من أبنائه شيء آخر مختلف، ولربما يقول القائل هؤلاء الذين بتصرفاتهم قد يسيئون للوطن هل هم من أبنائه؟ نعم هم من أبنائه الذين لهم حق الرعاية والحماية، نعم من أبنائه الذين وإن جانبهم الصواب فلا يمكن حرمانهم من وطنهم ووطنيتهم، ذلك أن الوطن وطن الجميع ولا يُمكن أن نكره وطننا أو نهجره لأنَّ فلانا لم يحسن التصرف أو العمل أو التخطيط.

الحقيقة التي لا تقبل الشك ولا التأويل أن أبناء هذا الوطن الغالي لا يحبونه فحسب؛ بل هم له عشاق يعشقونه حتى الهيام به، والذوبان في محبته، وقد يظن أحدٌ أني أبالغ في هذا الوصف، لكن قد تكون الحقيقة أنني قصرت في وصف محبة أبناء عُمان لعمان، والشواهد كثيرة فالعماني رغم قساوة الظروف وتقلبات الأحوال وضغط الجانب المعيشي تبقى عُمان عنده خطا أحمر لا يقبل النيل منها أو من رموزها وقادتها، تبقى عمان الأمل والملاذ والمبتدأ والمنتهى، إليها المسعى وفيها المحيا والممات.

وقد تابعت بكل اهتمام كغيري من أبناء هذا الوطن الغالي ما تردد خلال الأيام الماضية والدعوات للهجرة إلى خارج الوطن للبحث عن مصادر للدخل والعمل، ورغم أن كسب العيش الحلال والسعي لأجله في ربوع المعمورة أمر طبيعي بل وضروري لأنه أحد أهم لوازم الحياة ومتطلبات العيش الكريم، وهو من مرتكزات استمرار الحياة المستقرة التي تقوم عليها الأسرة السوية والمجتمع الواعي المتماسك، كما إنها ليست ببدعة بل هي أمر تعارف عليه الناس، وهذا ليس له علاقة من قريب أو بعيد بمحبة الوطن، ذلك أن الساعي لطلب الرزق محب لوطنه سواء كان هنا أو خارجه.

وإنما الإشكالية في الدعوة للهجرة وهي مفهوم عند المختصين بالعلوم الإنسانية تعني في صورة واضحة أن تترك بلدك لبلد آخر تعيش وتستقر فيه، وهذا مختلف عن السفر للكسب والعمل، وهو ما كان عليه أهلنا الذين سعوا في مناكب الأرض حاملين معهم الوطن بكل تفاصيله..

فهل الهجرة هي الحل؟

لكم أن تتخيلوا لو أن كل باحث عن عمل هجر بلده فمن يبقى للأوطان يذود عن حماها ويرتقي بسماها؟ ويحفظ لها عزتها، ويصون مكانتها، ويدفع عنها كل أذى، وهل تنتزع الأغصان من جذورها؟ والذي بعث محمدًا بالحق بشيرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا، فليس كالأوطان مكانا ومكانة، وليس كالأوطان حصنا حصينا نحتمي به من تقلبات الدهر وتغيّر الأيام، وليس كالأوطان عزا نعتز به ونفاخر به.

إن الدعوة للهجرة خارج الوطن لا يمكن إغفالها فالطالبون لها بنو الوطن الغر الميامين، وعدته وعتاده، وهم والله من صفوة شبابه حضورًا ومحبة وعلمًا ومعرفة، ولكنها صروف الدهر وضنك العيش، التي دفعتهم لذلك. ورغم أنني لست هنا في محل اللوم؛ بل هو عتاب المحب المدرك لبواطن الأمور، فمهما كان الأمر شديدًا قاسيًا فلا هجرة إلا للوطن.. دعوة أطلقها ساكن القلوب والحنايا السلطان قابوس بن سعيد- طيّب الله ثراه- ولا خير فينا بهجرة هذه البلاد العزيزة الغالية، فكيف الصبر عن أرضها وبحارها وسهولها وجبالها ووديانها وروابيها؟ وكيف الصبر عن جيرة أهلها وسكون حواريها وبساطة رجالها وحشمة وعفة  نسائها؟ كيف الصبر عن لقاء أعيادها وصوت بنادقها وأهازيج أفراحها؟ كيف الصبر عن عازي يشد العزائم، ورزحة تُثير الحماس وتبعث السُّمو وتعلي هامات الرجال فتجاوز بها الثريا شموخا ورفعة؟ كيف الصبر عن (عرسية) العيد و(تقلية) الجار و(شوا) الأهل والأحباب؟ كيف الصبر عن عزوة الأهل ووقفة الجيران وتعاون الأحبة في الأفراح والأتراح؟ كيف الصبر عن جار يحفظ لجاره الحرمات ويصون الحقوق ويدفع الضيم؟ كيف الصبر وكيف الصبر وكيف الصبر؟! فهل مثل هذا يُهاجر منه أو يهاجر إليه؟!

ثم أنت أيها المسؤول أيًا كان موقعك وأيًا كان مركزك وأيًا كانت وظيفتك، ففي عنقك أمانة، وعليك دين واجب القضاء، فأما الأمانة فثقة مولانا السلطان- أعزه الله تعالى- الذي كلفك أمر النَّاس، وشرفك بخدمة أبناء عمان، فكُن لذلك أهل، وأعمل جهدك ما وسعك الأمر، وأعلم أن العمل والعيش الكريم حق لأبناء عمان الكرام أكد ذلك مولانا السلطان المُعظم، وأقرته الأنظمة والقوانين، وأوجبته المواطنة الحقيقية والمسؤولية الوظيفية، فلا عذر ولا سبيل للتأجيل.

وأما الدين الواجب قضاؤه فهو؛ قسم البذل والصبر والذود عن حمى الأوطان، والأمانة واجبة السداد ببذل كل ما من شأنه صون الكرامات، وسد الحاجات، وكفاف وعفاف العباد. وعليك أيها المسؤول أن تكون الدعوة للهجرة خارج الوطن دافعًا للبذل من أجل حل إشكالات العمل وإيجاد الفرص اللازمة لشباب الوطن وأبنائه الكرام، وليكن شعارنا منذ اللحظة الهجرة للوطن.

حفظ الله تعالى عُمان وطنا شامخا عزيزًا أبيًا كريمًا حرًا مصانًا تبذل له الأرواح والمهج، وحفظ مولانا جلالة السلطان المُعظم قائدًا ورائدًا وسلطانًا يأمر فيطاع، تحفه عناية الرحمن، وتحفظه دعوات أبناء عمان، وحفظ أبناء هذا الوطن أعزةً كرامًا أحرارًا في رغد من العيش وهناء من السعادة وسرورًا وحبورًا دائمين لا ينفذان أبدًا.

مقالات مرتبطة

1 من 14